لا شك ان القراءة هي أحدى اللبنات الأساسية الداعمة للشخصية المثقفة الفذة الملمة بواقع العصر.
وهي كذلك أمر واجب وليست عائدة الى الاختيار الشخصي، أو كما يحلو للبعض ان يدعوها: هواية. فالقراءة هي التي تضمن عمق التفكير وتكوينه من طبقات ومستويات مختلفة، وهي التي تساعد على الإحاطة بواقع ما يدور في كافة الأنحاء والأرجاء على صعيد الأخبار اليومية، التحليلات المختلفة وتطور العلوم الانسانية والطبيعية على حد سواء, والذي هو أمر واجب للبشر عامة ولأمة إقرأ خاصة.
والقراءة السليمة هي تلك التي تتنوع مصادرها ومجالات اهتماماتها، فلا يصح مثلا التركيز على مجال واحد أو مجالين واهمال البقية لكون هذا الأمر يتنافى وأحد أهداف القراءة ألا وهو الالمام بجميع شؤون الحياة.
ولا يصح كذلك الاكتفاء بقراءة الصحف وقراءة الانترنت السريعة، فهي وان مكنتنا من معرفة أمور كثيرة الا أنها قراءة سطحية تمنع الشخص من التفكير العميق المتعدد المستويات، فهي قراءة سريعة غير متطلبة، ولا تلزم العقل على امعان التفكير، بل تلقنه المعلومات بالطريقة البنكية النمطية، فهي اذا قراءة مكمّلة، ولا تصح أن تكون نمطا للقراءة الرئيسية
ومع وجوب التنوع، الذي يقضي بأهمية التعرض لنوعيات الكتابات المختلفة المنطلقة من أسس ايمانية وعقائدية متباينة، ومع كون الكتاب اداةً معرفية غير محايدة تطرح المضمون من وجهة نظر كاتبه وفقا لعقيدته الحياتية والمعرفية،يُطرح السؤال، ما هو مدى التنوع الذي سنسمح لأنفسنا به بحيث يحقق النظرة الواسعة بدون أن يخل بأسس تفكيرنا الإسلامي السليم وبدون أن يعرضنا لفتن فكرية قد لا نقوى على مقاومتها..
هناك فئتين، الفئة الأولى تقول بوجوب القراءة المتنوعة وتؤمن بقدرة الانسان على القراءة النقدية الواعية وبالتالي اجتناب الوقوع في الفتن، فهي تظن باستقلالية عقل الانسان وقوة ملاحظته، وتلغي امكانيات الإغراء الخارجة عن ارادته، بل تظن بوجود كل الأمور تحت سيطرة الشخص، وهي بذلك تنفي الاختلافات الشخصية بين الأفراد، وتلغي مفهوم قوة التحمل والجلد، كما وتنفي أصلا امكانية تبطين أفكار مسمومة معينة بشكل غير مباشر بحيث لا تمكن وقوع مواجهة مباشرة بين فكر الشخص وهذا المعتقد، انما يتقبله كجزء من غلاف حلو آخر.
أما الفئة الأخرى فتؤمن بضرورة اجتناب قراءة كتب لكتاب غير اسلاميين ولو حوت علماً كثيرا وذلك من باب "درء المفاسد مقدم على جلب المنافع"، فهي تظن ان ارادة الانسان ضعيفة تماما وهو يسير وفقَ هواه خاصة في حالة وجود بيئة أو محفزات داعمة، ولذلك، فهي تطالب بمحاولة تنقية هذه البيئة من كل الشوائب. (والذي هو أمر شبه خيالي في عصر العولمة والاتصال)
وكما هو مفهوم طبعا، فإن هنالك درجات مختلفة واقعة بين الرأيين وهي التي تأخذ بشيء من هنا وشيء من هنالك...
وهي التي تفيد أن الانسان مخلوق ذو ارادة قوية، تكبر وتتحصن بزيادة الايمان وهو لذلك أهل ٌ للقراءة الواعية النقدية التي تمكنه من الاستفادة من علوم وتجارب البشر جميعا اسلاميين وغير اسلاميين على حد سواء بعد وضع كل الأمور العقائدية أو الأفكار المخالفة للعقيدة والشريعة جانبا.
ولكنها كذلك تؤمن بأن بعض الكتاب الشيطانيين ،المتقنين لبليغ الكلام وحلو الحديث، والذين قد جعلوا محاربة الإسلام في سلم أولوياتهم، قد انتجوا كتبا فاسدةً، ان قيسَ الخير فيها لم يوازِ شرّها.
وبما أن الايمان في القلب يزيد وينقص، قد تكون قراءة كتاب كهذا في حالة ايمانية ضعيفة، سببا للوقوع في الفتن، فحصن النفس والعقل الايمان، وان نقص، خيف على النفس من الهوى.
كيف يمكن اذاً ان نصنف الكتب وفق منافعها ومفاسدها، وكيف لنا أن نقَّيمَ المصلحة الناتجة منها؟
على المسلم أن يكون قارئا واعيا ناقداً، فقراءة كتاب تستدعي أولاُ معرفة سيرة حياة كاتبه واتجاهاته الفكرية فبالاضافة الى كون هذه المعرفة تمكننا من التحليل الواعي لكلامه على صعيد علمي، تمنحنا أيضا الفرصة لفهم عقيدته وبالتالي تخاذ القرار الصحيح الذي يمكننا من تكوين ذاتٍ قارئة عالمة مثقفة غير متقوقعة على نفسها، وغير مغيّرةٍ لعقائدها ومبادئها.
فالقراءة المتنوعة اذا ممكنة وواجبة بشرط أن تكون نقدية واعية مقارِنةً، وليست قراءة استهلاكية بحتةً تستوعب وتتبنى كل ما تقرأ، انما تنتقي بحكمة تلك الأمور التي يمكن أن تعم بالفائدة على الأمة عامةً وعلى الشخص خاصةً، وتتجنب (بواسطة معرفة قوية بالذات وبحالاتها الايمانية) أي مواقع للفساد يمكن أن تزيغ الأبصار والألباب.
فليس الذكاء في العزوف عن أمور قد تجلب الخير على صعيد أممي، انما الذكاء في الانتقاء الواعي.
ولله در الشاعر اذ قال:
خذوا من الغربي خير علومه * وذروا قبيح خلائق وطباعِ